الإسلام وتنمية العلم والبحث العلمي
الدكتور يوسف يعقوب السلطان
مقدمة
إن من أبرز سمات عصرنا الحاضر التقدم العلمي والتكنولوجي الذي أحرزه العالم خلال القرن المنصرم, وتأثير هذا التقدم على نشاطات المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر في تحقيق خطط وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. وعليه, فإن قاعدة البحث العلمي وتطويرها تشكل القاعدة الركيزة الأساسية لقدرات الدول على الاختراع والابتكار وتطوير التكنولوجيا واستخداماتها في مختلف قطاعات الدولة. إن ما توصل إليه العالم المعاصر من معارف وتقنيات هي امتداد لتراكمات المعارف والخبرات التي توصلت إليها الإنسانية عبر الأزمنة المتعاقبة, بما في ذلك التقدم في تطوير هذه المعارف (يوسف السلطان, 1998).
وكلما تقدمت العلوم وتعاقبت أنشطة البحث العلمي لاكتشاف الجديد والمجهول, ولاختراع وسائل أفضل لمعيشة الإنسان, تتضح أهمية هذه الأنشطة في حياة الشعوب, فالتقدم العلمي جعل حياة الإنسان أكثر راحة وإثارة, كما منحنا صحة أفضل, وسفرا أسرع وأريح, وساهم في تحسين اتصالاتنا, ووضع بين أيدينا العديد من البضائع والمنتجات والخدمات والتسالي (عالم الفكر, أكتوبر 2000).
يلعب العلم والبحث العلمي وتطبيقاته التكنولوجية دورا مهما في تطور ورفاهية المجتمع في أي دولة. ويمكن اعتبار إجراء البحوث العلمية مقياسا لتقدم هذه الدول ونموها الاجتماعي والاقتصادي. فالدول التي تعرف كيف تطبق مخرجات البحث العلمي, نجدها دائما تحتل مكان الصدارة في مجالات عديدة, مثل تصنيع الآلات والأجهزة الحربية, وهذا يجعلها تتفوق عسكريا وتكثر مساهماتها الثقافية والعلمية في الحضارة الإنسانية, أو في مجال تقديم الخدمات المتنوعة لمواطنيها وفق أحدث الأساليب. أو كمثال آخر وليس أخرا, في نموها الاقتصادي وبناء المصانع وزيادة الإنتاج وحسن استغلال الموارد الطبيعية.
يرتبط البحث العلمي وتطبيقاته التكنولوجية بالتنمية الوطنية والأعمار ارتباطا عضويا لا يمكن فصله, والدول المتقدمة صناعيا بارعة في ترسيخ هذا الارتباط والاستفادة منه لأقصى الحدود. حيث يعود التحسن في مستوى معيشة أفرادها بنسبة 60ـ80% إلى التقدم العلمي والتقني, بينما يعزى هذا التحسن بنسبة 20ـ40% إلى وجود رأس المال.
ولقد نهجت الدول المتقدمة نهجا بحيث لا تخطو خطوة في أي مجال إلا بعد دراسة مستفيضة, وهذا ما يجعلها مستقرة اجتماعيا واقتصاديا وعلميا, أو بمعنى آخر أن البحث العلمي يشكل جزءا لا يتجزأ من تنميتها القومية. وعلى العكس من ذلك نجد أن أغلب الدول النامية ترتجل الحلول للمشاكل التي تواجهها والتي تكون بعيدة جدا عن الأسلوب العلمي الموضوعي (يوسف السلطان, 1994).
أضف إلى ذلك أن المشكلة أو التحدي في توجيه البحث العلمي إلى أغراض التنمية في الدول النامية تنبع من أن التنمية وحتى مفهوم التنمية في هذه المجموعة مازالت تحبو أو أن التخطيط لها يتم بطرق ووسائل عشوائية أو ارتجالية أو مقلدة لنموذج من الدول الصناعية المتقدمة. لذا تنعكس أنشطة البحث العلمي في هذه المجتمعات نتيجة لهذا التخبط أو غياب التخطيط لتغدو ممارسات ونتائج لجهود لا تمس أو تتبع أو تتواكب مع احتياجات المجتمع. وقد لا ينظر إليها كأبحاث علمية ذات مردود اجتماعي واقتصادي. وقد يعزى ذلك إلى أن مثل هذا التجافي والتباعد بين البحث العلمي والتنمية في البلدان النامية تنتج عنه أبحاث بعيدة الصلة بالتنمية الداخلية, إذ يسعى من خلالها الباحثون النشر في دوريات علمية عالمية بغرض الترقية أو بغرض حضور محافل علمية عالمية.
ومن نافلة القول الإدراك بأن لأنشطة البحث والدراسات العلمية دورا هاما ومشاركة ضليعة في تحقيق أهداف التنمية الوطنية الشاملة لأي مجتمع, إذ تلعب هذه الأنشطة دورا بارزا في إعداد وتنمية الكوادر الوطنية وفي استغلال المصادر الطبيعية الوطنية المتاحة وفي زيادة استقلالية المجتمعات المتمثلة في استيراد أو تطوير معارف علمية وتقنيات متعددة للوفاء باحتياجات المجتمع. وتزداد مساهمة أنشطة البحث العلمي في تطوير المجتمع وتتناسب طرديا مع كيفية الاستفادة من نتائج الأبحاث العلمية وتطبيقها في قطاعات المجتمع المختلفة. ويتطلب ذلك, تفاعلا اجتماعيا وعلميا بين العاملين في هذه المؤسسات وبين القطاعات أو المؤسسات المستفيدة. ولا جدال أن غياب مثل هذا التفاعل أو عدم وجود تنسيق بين هذه الجهات يؤدي إلى تشتيت الجهود والتأخير في مرحلة التوصل إلى الحلول والاقتراحات والبدائل في المؤسسات العلمية ومن ثم تبنيها وتطبيقها في القطاعات والمؤسسات ذات العلاقة.
إن الاستفادة من نتائج الأبحاث والدراسات العلمية تبدأ من مؤسسات الأبحاث العلمية والتطوير (إما باستجابتها لطلب قطاع ما في المجتمع أو بمبادرتها لوضع حلول ودراسات تهدف إلى تعزيز هذا القطاع), حيث تبدأ حينها هذه المؤسسات بتشخيص المشكلة ودراستها ثم وضع المقترحات الوافية والكفيلة بمعالجتها للتوصل إلى الحلول ومن ثم التوصيات اللازمة بها على أن تطابق هذه الحلول واقع الحال لدى هذه المؤسسات ويتم اختبارها والتأكد من فاعليتها قبل إعدادها بصورة نهائية وتقديمها إلى القطاع أو المؤسسة المستفيدة.
يلعب البحث العلمي وتطبيقاته التكنولوجية دورا هاما في تطور ورفاهية المجتمع في أي دولة. ويمكن اعتبار إجراء البحوث العلمية مقياسا لتقدم هذه الدول ونموها الاجتماعي والاقتصادي. فالدول التي تتميز بكفاءة تطبيق مخرجات البحث العلمي, نجدها دائما تحتل مكان الصدارة في مجالات عديدة, مثل تصنيع الآلات والأجهزة الحربية, وهذا يجعلها تتفوق عسكريا وتكثر مساهماتها الثقافية والعلمية في الحضارة الإنسانية, أو في مجال تقديم الخدمات المتنوعة لمواطنيها وفق أحدث الأساليب. أو كمثال آخر وليس أخرا , في نموها الاقتصادي وبناء المصانع وزيادة الإنتاج وحسن استغلال الموارد الطبيعية. وتسمى هذه الدول بالدول المتقدمة أو الصناعية (أو دول الشمال). بينما نجد دولا أخرى تسمى بالدول النامية (أو دول الجنوب) نرى أن قدرتها على استخدام العلم والبحث العلمي وتطبيقاته التكنولوجية متخلفة (يوسف السلطان, 2000).
إن العلم أفضل فعاليات الإنسان وأكثر أشكال الحضارة البشرية حضورا وتمثلا وأشدها إيجابية, وإن هذه الحقب المتعاقبة من تاريخ الإنسان وأنشطته, ما كان يمكن اقتحامها ومحاولة دراستها إلا بواسطة مناهج للبحث العلمي. فالمضادات الحيوية والحاسبات الإلكترونية والطاقة النووية والسفر عبر الفضاء, الخ كمكتشفات بالغة التطور والتي تثير الدهشة والإعجاب تمتد بجذورها إلى الجهد الإنساني وكانت سببا ونتيجة لتطور فكر ونمو تفكير الإنسان. فالعلم والبحث العلمي ينتجان من العقل ويمثلان خيرا عميما متاحا للجميع, وليس حكرا على فئة ما.
كما أن العلم شريان تاجي من شرايين الحضارة الإنسانية ونبضه مؤشر دال على حيوية الحضارة والتقدم ورقي الأمم. والحضارة, لامراء, ليست مراحل منفصلة متمايزة بقدر ما هي عملية متصلة وسيرورة متنامية, تسلم كل مرحلة فيها إلى الأخرى. أما البحث العلمي فهو منشط ذو حدود مهنية قاطعة وآليات متعينة ووسائل نافذة تحكم عملية إنتاج منتظمة وراهنة للمعرفة, لكونه يرتكز على منهج محدد عماده التجربة. والمنهج هو الطريق الواضح الذي يفضي إلى غاية مقصورة, لذا, يغدو المنهج طريقا محددا لتنظيم النشاط من أجل تحقيق الهدف المنشود.
فالمنهج العلمي إذن هو طريقة تنظيم عملية اكتساب المعرفة العلمية, إنه المبادئ التنظيمية الكامنة في الممارسات الفعلية للعلماء الذين انخرطوا بنجاح, وعلى مر العصور, في إنتاج المعرفة العلمية والإضافة إلى نسق العلم.
وجدير بالذكر الإفادة بأن المجتمع العلمي التجريبي يعتمد على الاستقراء (تبرير المعرفة العلمية), وهو تتبع الأمر لمعرفة أحواله, والحكم على الكلي لثبوت ذلك الحكم في الجزئي. والاستقراء عبارة عن قواعد تنظم عملية إنتاج المعرفة العلمية وفق الخطوات التالية:
خطوة الأولى: الملاحظة التجريبية.
الخطوة الثانية: التعميم الاستقرائي للوقائع.
الخطوة الثالثة: افتراض فروض تعلل أو تفسر التعميم الاستقرائي.
الخطوة الرابعة: التحقق من صحة هذه الفروض.
أما العلماء بهيئاتهم وخبراتهم ومجالات عملهم وموضوعاته وأهدافه, فهم يمثلون أهم مؤسسات الحضارة المعاصرة, إذ لا تقتصر المؤسسات العلمية على إيجاد نوع من الانسجام بين أفراد المجتمع أو الجماعات, بل يتسم المجتمع العلمي والعشيرة العلمية بدرجة من التآزر والتضافر والتكاتف يميزه عن أي نشاط آخر في المجتمع (يمنى الخولي, ديسمبر 2000).
وقد شكل الإسلام منذ بداياته الأولى إطارا مميزا , فهو يشمل كل مجالات الحياة الدنيوية والأخروية, حيث يرتبط عضويا بالدولة والسياسة والقانون والمجتمع ويكتنف الحياة العامة والخاصة وهو لم يفرق بأي حال من الأحوال بين ما هو ديني وما هو دنيوي وما هو روحي وما هو بدني زمني. وعلى ذلك فإن الدين في المنظور الإسلامي هو منهاج شامل, الأمر الذي يجعله إطارا ملائما لدفع التنمية الشاملة والمتواصلة, ذلك لأن التقدم في ميدان ما لا يمكن أن يتم إلا إذا صحبه وتوافق معه تقدم في باقي الميادين من الحياة الاجتماعية (محمد إسماعيل, الوعي الإسلامي 1997).
أن أول آية قرآنية لامست قلب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تحثه على العلم وأهمية طلبه:
اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم . العلق 1ـ5.
فالإسلام, لا مراء, يدعو إلى العلم والتقدم الذي تستفيد منه الحضارة الإنسانية, وما كانت البشرية لتصل إلى ما وصلت إليه لولا إنتاج العقل المبنى على العلم والبحث العلمي. ذلك العقل الذي يعرف أن له خالقا, خلق فسوى, وقدر فهدى يتطلع إلى الكون بنظرة إيمانية تعينه على تحقيق النتاج العلمي (أحمد هاشم, القبس 19/12/2000).
الإسلام وتطوير العلم والبحث العلمي وتفضيل العلماء
أرسل الله سبحانه وتعالى إلى البشرية رسلا وأنبياء عددين منهم من حمل كتبا سماوية تدعو إلى الإيمان والتوحيد وتبين بعض المواعظ والحكم. إلا أن البشرية لم تشهد ومنذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وإلى أن يرثها كتابا فيه من الإعجاز والبلاغة والفلسفة والعلم والعظة والحكمة والعبرة الخ, مثل القرآن الكريم. فلقد تميز هذا الكتاب العزيز عن الكتب المقدسة الأخرى بمجموعة من الإعجازات جعلت منه الكتاب الشامل والحاوي لكل ما يحتاجه الإنسان في حياته وعلاقته مع الآخرين ومع ربه وحتى مع كونه وما يحيط به من مخلوقات.
ولا غرو أن هذا الكتاب المكنون بآياته الجليلة, وبمرامي غاياته السامية المتميزة, إنما هو تهذيب وترصين للنفس الإنسانية, وتطمين لروح بني آدم, ليستقيم لها الصلاح, ولتستوي لها سبل المعيشة الرغدة, وليستقر لها الفلاح, فتضحى بذلك وتمسى راسخة الإيمان, وطيدة البنيان, إزاء خالق الخلق وباتجاه ذاتها ومتناسقة مع الآخرين فرادى أو جماعات. ولا تثريب أن القرآن الكريم سيظل مرشدا وهاديا للبشرية جيلا تلو الآخر تتعاقب على معينه الديمومي لتنهل من عطائه وتدفقه المتجدد أبدا . بل إن ما سنذكره أدناه إضافة إلى تعليمات وهدى السنة المطهرة والأحاديث النبوية الشريفة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المضمون سيعكس لا تتريب, دور الإسلام في رقى العقل البشري وسمو التفكر والتدبر لدى الإنسان.
حين يأتي إنسان ويقول إنه رسول من عند الله جاء ليبلغ منهجه أفنصدقه أم أننا نطالبه بإثبات ما يقول. إذن كان لا بد أن يجيء مع كل رسول معجزة تثبت صدقه في رسالته وفي بلاغه من الله وأن تكون المعجزة مما لا يستطيع أحد أن يأتي به وأن تكون أيضا مما نبغ فيه قومه حتى لا يقال أن رسولا قد تحدى قومه بأمر لا يعرفونه ولا موهبة لهم فيه فالتحدي يجب أن يكون في أمر نبغ فيه القوم حتى يكون للتحدي قيمة ولذلك نلاحظ في معجزة كل رسول أنها جاءت فيما نبغ فيه قومه وأنها جاءت لتهدم ما يتخذونه إلها من دون الله (محمد الشعراوي, غير مؤرخ).
فمثلا معجزة سيدنا إبراهيم عليه السلام جاءت في قوم يعبدون الأصنام ويسجدون لها ويقدسونها ولذلك عندما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام جاءوا به أمام آلهتهم ليقتلونه في النار وكان المفروض أن هذه الآلهة تنتقم لنفسها ممن حطمها إذا كانت تستطيع لنفسها نفعا أو ضرا ولكنهم حين ألقوا بسيدنا إبراهيم عليه السلام الذي سفه معتقداتهم في النار لم تحرقه النار وخذلتهم آلهتهم ولكن معجزة سيدنا إبراهيم عليه السلام ليست أن ينجو من النار فلو أراد الله أن ينجيه من النار ما مكنهم من إلقاء القبض عليه أو نزلت الأمطار لتطفيء النار ولكن الله شاء أن تظل النار نارا متأججة محرقة مدمرة وأن يؤخذ سيدنا إبراهيم عليه السلام عيانا أمام الناس ويرمى في النار وهنا يعطل ناموس أو قانون إحراقها قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم . الأنبياء . 69.
ولو أن سيدنا إبراهيم عليه السلام نجا بأن هرب مثلا لقالوا لو أمسكناه لأحرقناه ولو نزلت الأمطار لقالوا لو لم تنزل الأمطار لأحرقناه, بيد أن سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يهرب والأمطار لم تنزل والنار متأججة ولكنها لم تحرق سيدنا إبراهيم عليه السلام فكأن آلهتهم التي كانوا يزعمون أنهم ينتقمون لها ليست بآلهة كما يزعمون وإنما هي أصنام لا تضر ولا تنفع وكل شيء في هذا الكون خاضع لمشيئة الله. وإرادة الله فعندما يقول جلت قدرته (يا نار كوني بردا وسلاما ) تتعطل خاصية الاحتراق وتقف قوانين الكون عاجزة أمام قدرة الله وتقف آلهتهم عاجزة أمام قدرة الله وتقف آلهتهم عاجزة على أن تقول: يا نار أحرقي من حطمني.
وسيدنا عيسى عليه السلام جاء وقومه يمارسون الطب فجاء لهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه فأبرأ الأكمة والأبرص وتسامى إلى شيء آخر لم يصلوا هم إليه فأحيا الموتى. إذن فمعجزات الرسل هي خرق نواميس أو قوانين الكون.
على أنه يلاحظ أن معجزة القرآن تختلف عن معجزات الرسل السابقين عليهم السلام. معجزات الرسل عليهم السلام خرقت النواميس وتحدت وأثبتت أن الذي جاءت على يديه رسول صادق من الله سبحانه وتعالى, ولكنها معجزات كونية من رآها فقد آمن بها ومن لم يرها صارت عنده خبرا إن شاء صدقه وإن شاء لم يصدقه. ولو لم ترد في القرآن لكان من الممكن أن يقال إنها لم تحدث إذن. فالمعجزة الكونية المحسة أي التي يحس بها الإنسان ويراها تقع مرة واحدة من رآها فقد آمن بها ومن لم يرها تصبح خبرا بعد ذلك. ولكن معجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم معجزة عقلية باقية خالدة شيء آخر. فإذا نظرنا إلى المعجزات السابقة وجدنا هذه المعجزة فعلا من أفعال الله وفعلا من الممكن أن ينتهي بعد أن يفعله الله, البحر انشق لسيدنا موسى عليه السلام ثم عاد إلى طبيعته. النار لم تحرق سيدنا إبراهيم عليه السلام ولكنها عادت إلى خاصيتها بعد ذلك ولكن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم صفة من صفات الله وهي كلامه والفعل باق بإبقاء الفاعل له والصفة باقية ببقاء الفاعل نفسه.
ويلاحظ أيضا في معجزة القرآن أنها اختلفت عن معجزات الرسل عليهم السلام اختلافا آخر. كل رسول كانت له معجزة وله كتاب منهج. معجزة سيدنا موسى عليه السلام العصا ومنهجه التوراة ومعجزة عيسى عليه السلام الطب ومنهجه الإنجيل. ولكن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم معجزته هي عين منهجه ليظل المنهج محروسا بالمعجزة وتظل المعجزة في المنهج. ومن هنا فقد كانت الكتب السابقة للقرآن داخلة في نطاق التكليف بمعنى أن الله سبحانه وتعالى كان يكلف عباده بالمحافظة على الكتاب. أما القرآن الكريم فقد قال الله سبحانه وتعالى عنه: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . (الحجر ـ 9) لماذا?
أولا : لأن القرآن معجزة وكونه معجزة لا بد أن يبقى بهذا النص وإلا ضاع الإعجاز.
ثانيا : لأن الله جرب عباده في الحفاظ على الكتب السماوية فنسوا حظا مما ذكروا به والذي لم ينسوه كتموا بعضه والذي لم يكتموه يلوون ألسنتهم به ويحرفونه عن موضعه وهكذا نرى أنه كان هناك أكثر من نوع المسخ والنسيان والتحريف ثم جاءوا بأشياء من عندهم وقالوا إنها من عند الله ليشتروا بها ثمنا قليلا .
وجدير أن نذكر, أن القرآن المجيد لم يأت ككتاب علم, ولم يأت ليبين لنا الجغرافيا والكيمياء والطبيعة وغيرها من العلوم, بل أنه نزل ليعلم البشرية الأحكام, والقرآن وإن لم ينزل ليعلم الناس العلوم الطبية أو أي علوم أخرى إلا أنه قد يمس قضية طبية بالتفاصيل الدقيقة, توصل إلى كينونتها الأطباء والعلماء بعد مئات السنين من نزول القرآن العظيم. فهذه الحقائق التي انتهت إليها آيات القرآن العزيز, هي قضايا الكون الأساسية, وهي الدعائم والركائز التي خلق الباري جلت قدرته على أساسها الكون, على أنها حقائق علمية ثابتة وراسخة وديمومية سواء توصلت إليها الاكتشافات العلمية أم لم تصل. فالقرآن الحكيم كتاب هداية وعقيدة وهو يخاطب ضمير الإنسان ويحيي فيه عوامل النمو والارتقاء, والصلاح والخير, والطيبة والفضيلة. لقد أحاطت جوامع الكلم بهذا السر الإلهي الذي جمع بين ما جمع قصص الأنبياء عليهم السلام, وبيان الحكم, وأساس الموعظة الحسنة. كما أشار إلى كثير من الحقائق العلمية والكونية التي تشهد بأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, ولم ينزل القرآن الكريم تطبيقا لنظرياتنا العلمية أو تحقيقا لأفكارنا, وعلى هذا فنحن لا نستطيع أن نطبق أية نظرية بالافتراض مع القرآن لأن هذه النظريات قد تكون صحيحة مطابقة ليومنا الحاضر, ولكنها تختلف في المستقبل القريب أو البعيد نظرا لما يحدث من تطورات مستمرة في مجال العلم والمعرفة. أما القرآن الحكيم فبنعمة من الله وفضل محكم في آياته, مسلسل في حوادثه, عظيم في معناه, سام في تراكيبه, لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد. والذين يفسرون القرآن الحكيم بما يطابق مسائل العلم ويستخرجون منه كل مسألة تظهر في عالم العلم, يسيئون إلى القرآن الكريم من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا لأن هذه المسائل التي تخضع لسنة التقدم تتبدل, وقد تتقوض من أساسها وتبطل, فإذا فسرنا القرآن بها تعرضنا في تفسيره للنقائض كلما تبدلت القواعد العلمية, أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم, أو يقين يبطل التخمين.
إن الحقائق القرآنية حقائق قاطعة مطلقة. أما ما يصل عليه البحث الإنساني أيا كانت الأدوات المتاحة له فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة, وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها, فمن الخطأ المنهجي بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية, وهي كل ما يصل إليه العلم البشري. هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى "علمية" فهي قابلة دائما للتغير والتعديل والنقص والإضافة. لذلك اتفق المسلمون في مختلف أنحاء العالم بأن فهم الإنسان المتغير واللامعصوم عن الخطأ للقرآن ليس له أي تأثير في كلمات القرآن التي لا تتغير أبدا , وحسب المسلم أن يفهم القرآن قدر المستطاع وحسب ما تجود به بيئته من علام وعلماء. وبالرغم من أن حقيقة معانيه الأصلية لا يعلمها إلا الله جل شأنه, إلا أن الإنسان مأمور من الله بأن يزيد معرفته, وعليه الاستمرار في تقديم الاجتهادات للدلالة على الرأي العلمي, كما يستدل من الآيات التي تحض على الفكر, وتدعو للتأمل.
وفي الأدبيات ذكر العديد من العلماء الأفاضل وتطرق الباحثون إلى إعجازات القرآن المختلفة فهنالك على سبيل المثال لا الحصر أدبيات حول:
الإعجاز العلمي للقرآن
الإعجاز اللغوي للقرآن
الإعجاز التشريعي للقرآن
إعجاز القرآن في الاستشفاء
إعجاز القرآن في الأرقام
إلا أننا موقنون بأن القرآن, إضافة إلى تعدد إعجازاته, فإنه الكتاب السماوي الوحيد الذي خاطب العقل الإنساني والفكر البشري, وأن الله, جلت قدرته, قد ميز الإنسان وفضله عن سائر خلقه عدا الملائكة عليهم السلام . بأن وهبه العقل للتدبر والتفكر والتأمل والتمحيص. فالقرآن الكريم في مجمل آياته يدعو إلى شحذ الهمم وتركيز البصيرة واستخدام العقل لتطوير منهجية حياة الإنسان.
فهذا, ولعمري, أبرز وأهم إعجاز للقرآن الكريم وهو الدلالة القاطعة على دور الإسلام في تبني العلم والبحث العلمي, وتقدير العاملين, وكذلك اهتمام الإسلام برقى العقل البشري. لماذا? لأن الأمم تتطور والشعوب ترتقي والمجتمعات تتقدم فقط عندما يستخدم الإنسان فكره وعقله للصالح العام ولمنفعة البشرية. فالكون الفسيح والموارد المتاحة ومعيشة الإنسان اليومية وعلاقته بالآخرين لا يتسنى لها الكمال وتحقيق الأهداف المتوخاة منها إلا باستخدام العقل, الذي يقود إلى الاكتشافات والاستدلال على الأسس العلمية في حياة الإنسان.
إن القارئ المبصر والباحث المتبحر في آيات القرآن الجليل يجد أن للعلم والعلماء منزلة سامية وفضلا كبيرا قد يضاهي فضل الزاهد العابد. ولذلك ما انفك علماء المسلمين على مر السنين وتعاقب الأزمنة وفي مختلف الحقبات من التمحص في العلوم والبحث في كينونة آيات القرآن لمعرفة مجريات الأمور ومسبباتها, وبتحليل وتعليل قوله تعالى (سنري هم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). فصلت . 53. فالكون كتاب مفتوح وكذلك أنفسنا, نحتاج أن نتدبر ما بها من معاني القدرة وبراهين الجبروت وحجج القوة الإلهية العظمى التي لا تضاريها قوة أو يساويها سلطان.
ففي الإسلام نجد أحيانا أن الله يجعل من العلم فريضة وأحيانا الأجر الكبير لمن يبتغيه, وتارة بين مكانته ومقارنته مع التعبد ومنزلته بالنسبة للنوافل الأخرى. ويجب أن ندرك أن للعلم خاصية فريدة تميزه وهي كونه يختص بالإنسان. فالقوة والجرأة والشفقة والحنان والود قد تتميز به مخلوقات أخرى, سوى العلم فهو للإنسان, وبسببه أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لسيدنا آدم عليه السلام.
ولا غرو إذن أن نجد في القرآن آيات تتساءل:
(أفلا تعقلون)?
(أفلا ينظرون)?
(أفلا تتدبرون)?
(أفلا يعلمون)?
(أفلا تتفكرون)?
ولا غرو إذن أن يرد في القرآن المجيد ما يقارب من ثماني مئة آية تتحدث عن العلم ومشتقاته: علماء, يعلمون, تعلمون, الخ.
ولا غرو إذن أن يمجد سيد الخلق سيدنا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم العلم والعلماء ويبين دورهم في تطوير الأمم وتقدمها.
ودعنا نتمحص الآيات التاليات من سورة النحل:
والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون . (النحل65).
" ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون . (النحل 67).
" ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ". (النحل 69).
ففي هذه الآيات الجليلات اختص الله تعالى إحياء الأرض بعد موتها بقوم يسمعون, ولعل الوجه في ذلك أن النظر في أمر الموت والحياة بحسب طبعه من العبرة والموعظة, وهي بالسمع أنسب. وفي ثمرات النخيل والأعناب بقوم يعقلون, وذلك لأن النظر في الثمرات من حيث ما ينفع الإنسان في وجوده من مسلك اتصال التدبير وارتباط الأنظمة الجزئية ورجوعها إلى نظام عام واحد لا يقوم إلا بمدبر واحد هو للعقل أنسب. أما أمر النحل في حياتها فيتضمن دقائق عجيبة لا تنكشف للإنسان إلا بالإمعان في التفكير فهو آية للمتفكرين (السيد الطبطبائي, 1972).
إن آيات القرآن المجيد جلها تستدعي التفكر وتحث العقل البشري على التمعن في قدرة الخالق سبحانه وفي مسببات الأمور حتى وإن لم تنته الآيات بالتذكير والتفكير والتدبر. فلننظر إلى الآية التالية ليتبين لنا هذا الأمر:
"خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم " .(لقمان ـ 10).
هذه الآية الجلية من سورة لقمان لم تنته بألا تتفكرون أو ألا تتدبرون, أو ألا تعقلون, ولكن أليس من إعجاز القرآن حث العقل البشري وتحفيز فكره للتطلع والتدبر وتحسس الأمور? لامراء أن هذه الآية هي آية القدرة, وآية الحكمة, وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل, الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه, ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله; وهو ضخم هائل دقيق النظام, متناسق التكوين, يأخذ بالقلب, ويبهر اللب, ويواجه الفطرة مواجهة جاهزة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها; ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم, وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين. فكيف ترتفع السموات من دون سند أو أعمدة تساعدها على الثبات, وهي تحتوي على مجرات ونجوم وكواكب وشموس أضعاف حجم الأرض? وهذه الجبال ما دورها في حفظ توازن الأرض بحيث لا تتأرجح ولا تهتز? أما الأمطار فهي تنزل من المزن لاستمرار حياة المخلوقات وفق نظام سماوي دقيق (سيد قطب, 1967).
ذكر في الأدبيات بأن مخارج العلوم أربعة:
علم رافع: وهو العلم الشريف من التفسير والحديث والفقه.
علم ساطع: وهو علم الأدب والأخبار الرفيعة.
علم نافع: وهو علم الطب والهندسة والحساب.
علم واضع: وهو علم الكهنة من السحر وما أشبه.
ودعونا نتساءل, عندما يجتمع متخصصون وباحثون وعلماء من كل مجموعة للمناقشة وتقديم الأدلة والبراهين وإيجاد الحلول واختراع المخترعات العديدة, كيف يتم ذلك?
ألا يتم ذلك بالنقاش والتنافس ودمغ الحجة وسطع البراهين? وهل يمكن أن يتم ذلك من دون استخدام العقل والفكر? فالتفكير والتدبر لقوم يعقلون ولقوم يعلمون ولقوم يتفكرون هو الشرط الأساسي للرقي والتقدم والفكر. وهو ما حباه الله جلت قدرته للإنسان, وهو ما تميز به دين الإسلام عن سائر الأديان والعقائد.
أبعد هذا إعجاز للإنسانية أو أكثر حثا على العلم والبحث والتعلم?.
دور الإسلام في تنمية العلوم وتطوير المعرفة
لقد كان شاغل المسلمين وهمهم منذ فجر الإسلام فهم ما جاء به كتاب الله بعد أن آمنوا به عن علم وبصيرة عن طريق البراهين التي تبدأ بالحس وتنتهي بالاقتناع.
وبين الحس والاقتناع مجالات رحبة تتسع لحظوظ المفكرين من العقل وأساليب التناول ومعطيات المواهب.
والمعرفة الحقة يجب أن تبدأ بالمحسوس, وقدرة العقل على الاستكناه, وسلطانه المتزن هو الذي ييسر له الانتقال في هدوء وسكينة إلى غير المحسوس.
وذلك ما اتخذه الإسلام منهجا وسبيلا للوصول إلى الغاية فكان المرفأ الآمن الذي اطمأن عليه ضمير المسلمين في فجر الإسلام (حمود غرابة, 1972).
فما ورد في القرآن والسنة المطهرة يبقى كتابا وسفرا سهل المنال, ومعينا لا ينضب أمام الأجيال تتوارد على معينه السلسل لتنهل من دفعه المتجدد أبدا .
إن ما نراه في هذا الكون الفسيح والآفاق الهائلة وفي خلق الإنسان ليس تكرارا ذاتيا فحسب, بل إنه ليكشف عن حقيقة السريرة الإنسانية المتطلعة إلى تعظيم القدرة المسيرة لهذا الخلق الكوني الرهيب. ولذلك, خلق الله الإنسان وأودع فيه غريزة حب الاستطلاع لكي يستكنه بعقله النير العبرة الضخمة التي تنضم وتسير هذا الكون العجيب والأفق الرحيب وخلق الإنسان وفق قواعد ونظم, وليس بعشوائية وارتجال. ولا غرو إذن أن يرتبط خلق الإنسان بالعلم, والعلم بخلق الإنسان كما ورد في أوائل السورة المكية وأول ما أنزل من القرآن.
"اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ". (العلق 1ـ5).
وفي أوائل السورة المدنية "عروس القرآن".
" الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان ". (الرحمن 1ـ4).
فلقد خلق الله جلت قدرته الكون والإنسان, وعلمه العلم وألهمه التفكير ليبحث وليطمئن قلبه. وقد وضع أمام بصره وبصيرته وحسه ووجدانه, آيات القدرة الإلهية ليتفكر فيها ويتبصر ويعتبر ويتدبر. وهذا كان من دواعي التطور العلمي على مر العصور وتعاقب الدهور في حياة البشرية جمعاء (عبد العلي الجسماني, 1997).
إن التطور برمته, ومن خلال مراحل متعاقبة, يجدر اعتباره عملية واحدة, إلا أنها تتبدل على مدى الزمن, الأمر الذي قاد إلى تطور كبير ومذهل في كافة ميادين العلوم, تبيانا لما ورد في قوله تعالى من سورة العلق (علم الإنسان ما لم يعلم).
الإسلام والاهتمام بالعلوم الشرعية
لقد تضمنت آيات عديدة مكية منها أو مدنية وكذلك السيرة المعطرة لمصباح الهدى عليه وعلى آله أزكى الصلاة وأتم التسليم وكذلك اجتهادات العلماء بعد ذلك على أمور شرعية عديدة ومتباينة تحدد علاقة الإنسان مع ربه وكيفية التعامل مع دينه وحسن التعامل مع أسرته ومجتمعه والبشرية بصورة عامة. أمور عديدة تتعلق بفروض وسنن ونوافل يتقرب بها العبد إلى ربه محاولا تزكيتها وإرضاء خالق الخلق. ولم يترك الإسلام شاردة أو واردة تتعلق بحياة الإنسان, حتى اليومية منها, إلا وبينها وفق قواعد وأصول محددة, من صلاة وصيام وزكاة وحج وإرث وزواج وطلاق وقتال وتجارة وجهاد ورعاية واحترام للوالدين, الخ, بل إن القواعد الشرعية قد نبهت الإنسان عن المغالاة في أي تصرف والتفريط في معاملة حتى لا تحسب عليه إثما .
إضافة إلى ذلك فلقد حث الإسلام على أن تكون هنالك مجموعة من المسلمين قائمة على شئون القواعد الشرعية وملائمة ما يستجد من أحداث لتكيفها مع الواقع الإسلامي, وحتى أثناء الحروب والجهاد والقتال فإن الإسلام أمر المسلمين بأن تكون هنالك طائفة نافرة تهتم بأمور الدين ونشر التعاليم الشرعية بين المسلمين في أرجاء المعمورة.
ولننظر في هذا الشأن قوله تعالى.
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون . التوبة 122.
التفسير الكبير (الفخر الرازي)
إن التفقه صفة للطائفة النافرة, فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة إلى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقهاء في الدين, وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى أوطانهم, فينذروا ويحذروا قومهم.
الميزان في تفسير القرآن (السيد محمد الطباطبائي)
تنهي الآية مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينفروا إلى الجهاد كافة بل يحضهم أن تنفر طائفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتحققوا الفقه والفهم من الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لأصوله وفروعه قومهم لعلهم يحذرون ويتقون.
جامع البيان (الطبري)
فلولا نفر من كل فرقة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليتعلموا ما قد ينزل من قرآن ويعلموه لقومهم.
تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)
لتتعلم هذه الطائفة وتتفقه ما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم, لينتقلوه إلى قومهم.
روح المعاني (الألوسي)
وكان الظاهر أن يقال "ليعلموا" بدل "لينذروا", "ويفقهون" بدل "يحذرون", بيد أن اختيار هذه الكلمات من الله سبحانه وتعالى إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض العلم الإرشاد والإنذار, وغرض المتعلم اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار.
الإسلام وتطوير العلوم والبحث العلمي
تضمنت آيات عديدة مكية ومدنية, وكذلك أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم أهمية العلم والتفكر وفضل العلماء في الدنيا والدين وأنهم ورثة الأنبياء تقديرا لدورهم وإجلالا لعطائهم لخير البشرية وتقدم الأمم وتفقههم في أمور دينهم ودنياهم ولم يقتصر الإسلام في الاهتمام بتطوير العلوم الشرعية, فحسب, بل وكان للعلوم النافعة والساطعة أهمية واهتمام بالغ في الإسلام, فالقرآن والسنة النبوية خطاب موجه لجميع الخلق ليخرجهم من الظلمات إلى النور, فتعاليم الإسلام صالحة لجميع الأزمنة, محتوية لجميع الأحكام التي تهم البشرية قاطبة, شارحة القضايا الشرعية (الدينية) والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والأدبية والطبية والكونية, الخ.
لذا, اهتم المسلمون الأوائل بالبحث العلمي وأولوه عناية فائقة لكونه تحقيقا لتوجيهات الله عز وجل للمؤمنين بالتفكر والتدبر في آيات الله المختلفة في الكون والنفس والأطر الاجتماعية الخ, فكان جهدهم في هذا المجال مفتاحا لتقدم العلوم وتطورها في شتى مجالات العلم والمعرفة, وانطلقت أبحاثهم من منطلقات إسلامية عظيمة, أسسها مبنية على عظمة الله عز وجل وقدرته وأنه خلق الإنسان وسخر له كل شيء ليكون عبدا لله يسعى لمرضاته, ثم لخدمة أمته الإسلامية. وقد ورثنا من أجدادنا تراثا علميا خالدا وحضارة إسلامية حقيقية عم نفعها الإنسانية جمعاء, وتراث المسلمين في مجال علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله وغير ذلك من العلوم الشرعية لا يوجد له نظير في الدنيا, ويقف الإنسان مبهورا أمام المجلدات الضخمة التي يصعب حصرها في مجال واحد فضلا عن باقي فروع العلم والمعرفة (صالحة شرف الدين, 1984).
واستدلالا على اهتمام الإسلام بالنواحي الطبية والعلمية للإنسان فإن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام قد بين أمورا كثيرة بما يسمى "بالطب النبوي" ترنو إلى حياة سليمة للإنسان وفق أسس علمية وأمور منطقية. فعلى سبيل المثال حديثه الكريم "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". فلماذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك? لماذا حدد معدة الإنسان بثلاثة أجزاء? وهل هذه الإرشادات الجليلة ناتجة عن آلية للمعدة والجهاز الهضمي? فالدراسات العلمية بينت, إضافة إلى نبذ الإسلام للتبذير والمغالاة في موائد الطعام, أن الأكل الكثير يفسد المعدة ويطفئ نارها ويضعف الجسم ويجلب الريح في البطن ويضيق الأنفاس ويبقي الطعام في قعر المعدة ويقل الحفظ ويقسي القلب بينما الأكل القليل يفرح القلب ويصلح الجسم ويزيد الحفظ ويزيد في النشاط والحركة.
فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب, فإذا أورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب, ليرقد القلب وتتكسل الجوارح, ويغدو الإنسان لاهثا متعبا من النصب ما يمنعه من أداء فروضه الشعرية وواجباته الاجتماعية, فلا خير منه يرجى.
ولننظر كذلك ونتمعن في قوله جلت قدرته (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). فصلت 53.
تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)
يحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى. وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبح.
في ظلال القرآن (سيد قطب)
إنه وعد الله لعباده بني الإنسان أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون, ومن خفايا أنفسهم على السواء. وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم, حتى يتبين لهم أنه الحق. هذا الدين. وهذا الكتاب. وهذا المنهج. وهذا القول الذي يقوله لهم. ومن أصدق من الله حديثا ?.
ولقد صدقهم الله وعده; فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد; وكشف لهم عن آياته في أنفسهم وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد.
وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين. فقد تفتحت لهم الآفاق. وتفتحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله.
لقد عرفوا أشياء كثيرة. لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون, إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس. وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين. وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم وربما طبيعة كونهم, إن صح ما عرفوه!.
وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه. إن صح أن هنالك مادة. عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة. وعرفوا أن الذرة تتحول إلى شعاع. وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع, في صور شتى, هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام.
وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير. عرفوا أنه كرة أو كالكرة. وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس. وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره. وكشفوا عن شيء من باطنه وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف هذا الكوكب من الأقوات. والمنثور في جوه.
وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير, وتصرف هذا الكون الكبير. ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس.
ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوارالنفس أقل منها في جسم الكون. فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير. عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه, وغذائه وتمثيله, وعرفوا عن أسرار عمله وحركته, ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله.
تفسير الماوردي (أبى الحسن الماوردي)
من الأقول أنها في الآفاق انشقاق القمر, وفي أنفسهم كيف خلقهم سبحانه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة, وكيف إدخال الطعام والشراب من موضع واحد وإخراجه من موضعين آخرين.
الإعجاز العلمي سبيل للاستدلال بعظمة الخالق
تطرقنا في متن هذه الدراسة إلى أن الإسلام متمثلا بالقرآن الكريم والسيرة النبوية الطاهرة قد اهتم بالعلوم الشرعية والعلوم النافعة والساطعة على حد سواء, وذلك لكي تقوم العلوم الشرعية بوضع الأسس والقواعد ومنهجية الإسلام للبشر, أما العلوم الأخرى فتكون بمثابة البوتقة التي يصهر بها عطاء وفكر وتدبير الإنسان ليتوصل إلى اكتشافات ومعارف تتقدم بها البشرية وترتقي المجتمعات.
وإننا نرى أن العلوم الشرعية والفقهية, وهي من أهم العلوم للإنسان, ترسى العقيدة وتأصل المفاهيم وتجلى الحق من الباطل, والحلال من الحرام, وتبين وتشير إلى كيفية تسيير نهج حياة الإنسان وعلاقته مع نفسه وأهله ومجتمعة.
إلا أن المعارف النافعة والساطعة من هندسة وطب وعلوم, الخ تبين لبني آدم وتوضح مفاهيم وأسس لا مراء تدعو إلى التفكير في الخالق, والتدبر في معطيات خلقه, والإمعان في معاني هذا الخلق وكيفية عمله وفق نظم وأسس تدل على أن لكل شيء آية, وإلى أن وراء كل ذلك خالق أحد صمد خلق كل شيء بقدر.
وسنستعرض بعض الأمثلة للاستدلال والتأكيد على ما ذكرناه آنفا .
السماء ذات الحبك (يوسف السلطان, 1999)
وصف البارئ تلألأت أنوار قدسيته السماء بذات الحبك, أي بذات الطرق, ولكل طريق أبواب عدة. ولم ينفذ علماء الفلك من الغلاف الجوي الأرضي ويسيروا شيئا من أقطار السموات إلا من خلال الأبواب والطرائق الموجودة في الغلاف الجوي الأرضي والفضاء الخارجي. فكل مركبة فضائية يجب أن تنطلق في زاوية وفي مسار معين كي تستطيع النفاذ من نطاق جاذبية الأرض إلى الفضاء الخارجي. وهناك آلاف الأدمغة الإلكترونية التي تصحح سير المركبة كلما ضلت عن مسارها, كما أن على المركبات الفضائية خلال عودتها إلى الأرض من الفضاء الخارجي الدخول والسلوك من فتحات وطرائق معينة في الغلاف الجوي الأرضي وإلا بقيت في الفضاء الخارجي أو احترقت قبل وصولها إلى الأرض. وهو ما كاد يحصل لإحدى المركبات الفضائية منذ سنوات عندما تعطلت لبعض الوقت الأجهزة التي توجهها نحو الفتحة أ